كل يوم يكبر فيصل فيه، أجده يتعلق بالحياة أكثر فأكثر، مترجماً ذلك بحيويته الدائمة وولعه الشديد بالتعلم والأكتشاف، حاله كحال الصغار في سنه، وحالما أدركت ذلك؛ أردت بشدة تعزيز ذلك الشعور النابض بالحياة لديه، وذلك باستثماره فيما يعود عليه بالفائدة في المستقبل، فقررت ان الحقه بالمدرسة ليتعرف فيها على أطفال بعمره؛ يتعلم معهم و يشاركهم في اللعب، و يمارس طفولته بشكل طبيعي.
لا شك أن مخاوفي على صغيري كانت تطغى على أفكاري بعض الأحيان، فأتعمق بالتفكير، وتساورني بعض الشكوك التي تجعلني أتساءل؛ ماذا لو دفعه أحد الأطفال وسقط على رأسه؟ ماذا لو تأثر جهاز التصريف؟ ماذا... وماذا...و ماذ...، أسئلة لم تنتهي حتى ألجمتها بتوكلي على الله، و تجاهلت مخاوفي كلها، وبدأت برحلة البحث عن مدرسة مناسبة لأحتياجات فيصل، حيث كانت لدي قائمة بالمعايير التي حددتها لتساعدني في إختيار المدرسة، كان على رأس تلك القائمة؛ كون المدرسة قريبة من المنزل، لأن فيصل مازال يحتاج مساعدتي في دورة المياه بنسبة معينة، ولا أحد يستطيع أن يحل محلي في هذا الأمر، وبناء على ذلك ظهرت الحاجة الملحة لأن تكون المدرسة قريبة من المنزل.
بعد بحث ومقارنات، وجدت مدرسة صغيرة قريبة من منزلي، كانت تربطني بأصحابها علاقة طيبة، وربما كان ذلك سبباً لأن يرحبوا بطفلي أيما ترحيب، و أن يتعاونوا معي لإنجاح تلك الخطوة التي اتخذتها والمتمثلة بإلحاق فيصل بالمدرسة.
الأيام الأولى كانت صعبة جداً على فيصل وعليّ، فلم يعتد فيصل الأنفصال عني بعد، ولم يتقبل فكرة المدرسة في البداية، ففي المنزل كان يبكي رافضا الذهاب للمدرسة، يغلبني في بعض الأحيان، وأغلبه في أخرى، وحين يصاب بالغثيان في بعض الصباحات؛ أضطر الى إبقاءه في المنزل، أو الخروج للمدرسة في وقت متأخر، وتجنباً لأزعاج معدته صباحاً كنت أحاول ايقاضه برقة ولين، و أحاول تلطيف الجو وإشغال ذهنه بأمور يحبها حتى ينسى الأفكار السلبية التي كوّنها عن المدرسة؛ هذا ما كان يحدث في المنزل، أما ما كان يحدث في المدرسة فلم يكن بعيداً عن الأول!! حيث كنت أضطر للبقاء معه طوال فترة الدوام لعدة أسابيع، قضى أولها جالساً معي في صالة الإنتظار، يتشجع فيأخذ جولة صغيره حولها ثم ما يلبث حتى يعود إلي مسرعاً مرتمياً في أحضاني.
كنت قد عقدت العزم على أن يلتحق فيصل بشكل كلي في المدرسة، ولا أنكر أنها ساورتني بعض الأفكار لأن أسحب طفلي لعدم تقبله للفكرة، و أكفيه المعاناة كل صباح، لكني أعود وأمني نفسي بأن أصبر أسبوع واحد فقط، فالذي يليه وهكذا.
لم يطل فيصل مأساتي بالمداومة في المدرسة بشكل يومي، فقد بدأ يألف الدخول للفصل، وبدأ يشكل علاقات صداقه مع الأطفال في المدرسة، حتى ألفهم، وألف العاملين، وكان لوجود ابنة صديقتي والتي هي في نفس عمر فيصل دوراً رئيسيا في ارتياح فيصل و قبوله لدخول الفصل، كانت صديقة فيصل الصغيرة تدعى "غالية".
عندما أنظر لغالية وفيصل، أسبح لله حسن تدبيره، وأتعجب كيف أن تلك الطفلة تحتوي فيصل وكأنما سخرها الله له، فهي تمسك بيده وتساعده على صعود الدرج والنزول منه، تلعب معه، وتحمل له حقيبته بعض الأحيان، علاقة بريئة ربما نشأت بين الصغيرين، كان أثرها أن انتظم فيصل في الصف التمهيدي.
كنت أزور فيصل أثناء الدوام مرة كل يوم في حوالي الساعة العاشرة، لأطمئن عليه، وأنظر الى احتياجاته، وإن هو احتاجني قبل موعد زيارتي له فانه يطلب من معلمته ان تتصل بي، فلا يفصلني عنه سوى 10 دقائق حتى أصل إليه.
في الفصل الدراسي الثاني انتقل فيصل و صديقته غالية إلى مدرسة أخرى، كان لها دوراً رئيسيا في تطوير قدرات فيصل، فقد تعرف فيها على أطفال جدد، ومعلمات جدد، ولم يواجه فيصل وغالية أية مشاكل في التأقلم، فقد أثارا إعجاب الإدارة الجديدة بانسجامهما السريع، وبالتأكيد وجودهما مع بعضهما ساهم في هذا الإندماج السريع.
مع الوقت تلاشت مخاوفي المتعلقة بفيصل والمدرسة، قابل ذلك زيادة في ثقة فيصل بنفسه، حتى أنه بدأ يطلب مني أن لا أنزل معه للمدرسة مؤكداً لي بأنه يستطيع الدخول، وصعود الدرج لوحده، فكنت اتفاعل معه، و أتركه يقوم بذلك لأعزز ثقته بنفسه.
لا يرى فيصل أنه مختلف عن الأخرين بشيء، فهو يشارك بكل الأنشطة والفعاليات، و يستمتع بالألعاب و المنافسات.