الاثنين، 29 يوليو 2013

الحلقة الرابعة والعشرون: احلام فيصل



الذكي:
منذ أن كان فيصل في عامه الأول وأنا أُخضعه لاختبارات بسيطة لأتبين قدراته العقلية، فقد حذرني الأطباء بأن الجنين قد يصاب بدرجة من التخلف العقلي، و مع كل إجراء اتخذه لأختبار قدرات فيصل؛ أجد ردود فعل الصغير تماماً مثل ردود باقي الأطفال في عمره، ولم ألحظ أي اختلاف.
مع مرور الوقت لاحظت ولع الصغير بالألعاب، وحبه للاستكشاف والأطلاع، كما انه كشف عن قدرة متميزة على حفظ الآيات القرآنية والأناشيد، والتقاط الألفاظ والمصطلحات الجديدة، والتي كان التلفزيون مصدراً لبعض تلك المصطلحات بالذات العربية الفصيحة.


مختبر فيصل العبقري:
في أحد المناسبات سألت فيصل عن الهدية التي يرغب بأن يحصل عليها، فبادر بالإجابة: "أريد مختبراً!! "، تفاجأت في الحقيقة برده، واستكبرت طلبه على عمره؛ فلم يكن تجاوز الرابعة آنذاك. ولكن تلك الابتسامة الساحرة، وبريق تنيك العنين الذي اخترق نظارته الظريفة الزرقاء كسهماً اخترق قلبي وانغمس في وسطه حتى بلغ أقصاه، لم يكن في يدي إلا أن أعتبر الموضوع قيد التنفيذ!
خرجت بنية بناء مختبر صغير لفيصل، فأحضرت له مجهراً من محلات الألعاب التعليمية، وبعض الدوارق التي سكبت فيها مياه ملونة بملونات طبيعية، والتي تستخدم عادة في إعداد الكعك وتحضير الطعام، ومعطفاً أبيض صغير، وبعض التجهيزات الصغيرة الأخرى؛ كلها جمعتها على طاولة وفاجأت فيصل بها صباح اليوم التالي.


رجل أطفاء:
عندما التحق فيصل بالمدرسة كان من ضمن الفعاليات التي شارك فيها فعالة (يوم المهنة) والتي اختار فيها أن يرتدي زي رجل الأطفاء، واستمتع بتمثيل دور البطل المغوار، والذي يبذل روحه رخيصة في سبيل إنقاذ الأخرين.


دكتور فيصل:
عندما نذهب لمواعيد المتابعة الدورية في المستشفى، يسعد فيصل بتلك الدقائق التي يتأخر فيها الطبيب عن الدخول لغرفة الفحص، فيقفز ويتموضع على كرسي الطبيب ويتقمص الشخصية بالتفصيل ابتداءً من النظرة الفاحصة من خلف النظارة المرتخية بإهمال على طرف الأنف، مع انحناءة ظريفة الى الأمام، إلى نبرة الصوت وحركات اليدين.
يحلم فيصل بأن يمتلك سيارته الخاصة، ويحلم بالسفر و الترحال، أحلامه الصغيرة تشبه أحلام كل الأطفال، ولكنه جعلها مشرقة مضيئة بروحه المميزة وقدرته على الكفاح والصمود.



الحلقة الثالثة والعشرون: فيصل اليوم



لفيصل حضور ملفت، و طلّة متميزة، فهو دائماً يحصد الانتباه في أي مكان يدخله، مشكلاً محطة تتوقف فيها ذكريات من مر بهم بعفوية، فعباراته البسيطة، وتعليقاته الظريفة البريئة، والتي يلقيها بالعربية الفصيحة، وقعاً خاصاً لدى الآخرين، ويقابل صغيري عبارات الإعجاب والإطراء دوماً ببسمة خجل.

لدى فيصل قاعدة عريضة من الأصدقاء بمختلف الأعمار، ويستمتع بالأحاديث والنقاشات التي تدور بينه وبينهم، مستخدماً خياله الواسع في الوصف وتخيل ما كان، وما لم يكن.

كبر فيصل ليحرق كل الأفكار السلبية التي كانت تنمو في رأسي، والتي كانت تجعلني أعتقد بأن صغيري سيواجه الرفض من المجتمع وأنه لن يتمكن من تكوين صداقات، فاليوم يصل لفيصل مكالمات خاصة من أصدقاء له من الأقارب (مبتعثين) للدراسة في أمريكا.


الحلقة الثانية والعشرون: فيصل يكبر بشكل مختلف



قضى فيصل في عامه الأول فقط، حوالي 5 أشهر مخدراً تخديراً كاملاً، لم يطور خلالها أي قدرة أو مهارة، هذا بالإضافة إلى وضعه الصحي بشكل عام الذي أدى لتأخر نسبي في تطور مهاراته وقدراته العامة، وأدناه جدول تقريبي لتطور قدرات ومهارات فيصل.
م
المهارة
العمر
ملاحظات
1
الأكل
مهروس
8 أشهر


مع العائلة
سنتين

2
الجلوس
أكبر من سنة بقليل

3
المشي
2

4
الكلام
9 اشهر

5
الكتابة
مازال يطور مهاراته

6
اللبس
الجاكيت
4 سنوات


الحذاء
5 سنوات


الملابس
مازال يطور مهاراته

7
الدراجة
3

8
السباحة
سنتين
مازال يطور مهاراته
9
الكاراتيه
5 سنوات

10
الإعتماد على النفس في دورة المياه
مازال يطور مهاراته
قسطرة ذاتية

والآن، فيصل أقصر بقليل من الأطفال الذين هم في مثل سنة، يستطيع الكلام بطلاقة، ويتحدث في مواضيع عدة، ويمكنه المشي لوحده دون مساعدة، وحديثاً استطاع الصعود على الدرج دون الحاجة للإمساك بالدرابزين.



الخميس، 25 يوليو 2013

الحلقة الواحدة والعشرون: العلاج الطبيعي


عندما بدأت صحة فيصل تتحسن، وبدأت أيام تنويمه في المستشفى تتباعد، بدأت أستعيد حياتي الطبيعية، وبدأ فيصل بالإنخراط في روتين العائلة، حيث امتلك كرسيه الخاص على طاولة الطعام كفرد مستقل في العائلة.

قبل تمام عامه الثاني بدأ فيصل بالبرنامج التأهيلي والمتمثل بالعلاج الطبيعي لمساعدته على النمو، وممارسة حياته بشكل طبيعي، وكان الهدف الأول من العلاج الطبيعي لفيصل هو تطوير قدرته على المشي، وذلك في أحد المراكز الحديثة والمتخصصة بذلك، و فيه انضم فيصل لفصول دراسية جمعته بأصدقاء جدد للمرة الأولى.

كان لدخول فيصل في الفصول التعليمية التابعة للمركز دوراً كبيرا لتنمية قدراته الإجتماعية، وتطوير مهارات التواصل لديه، حيث كانت المرة الاولى التي يختلط فيها باطفال في نفس عمره من خارج دائرة العائلة والاصدقاء، فكوّن صداقات عدة، ولفت انتباه الجميع بظرافته وخفة ظلّه، وتم ترشيحة ليمثّل المجموعة في أحد المحافل حيث قدم باقة الورد لضيف الشرف وهو لم يتجاوز الثالثة من عمره، فتقدم الى الضيف مستخدماً جهازاً مسانداً، وعرّف بنفسه وقدم الورود له.

لم يكن فيصل قادراً على المشي عندما التحق بالمركز، و لكنه خلال أشهر قليلة، وضمن برنامج تأهيل مكثف، وبأشراف مختصون رائعون، استطاع أن يقوم بأولى خطواته مستخدماً الأجهزة الداعمة والمساندة والتي كانت نقطة الإنطلاق لديه، وما لبث حتى أستغنى عن تلك الاجهزة، وأصبح يعتمد على نفسه بالمشي، ولم يأت ذلك في ليلة وضحاها؛ بل بعد انتظام كامل في برنامج مكثف من العلاج الطبيعي والتمارين التي يقوم بها في المنزل لتعزيز تأثير العلاج الذي يتلقاه صباحاً في المركز.

مقياس صحة فيصل لدي هو قدرته على المشي، فعندما أجده يمشي بصعوبة، أو يجلس على الأرض ويطلب المساعدة من الآخرين للانتقال من مكان إلى آخر، أدرك أن هناك خطب ما، وأن حرارته سترتفع قريباً، فأول البوادر دائما هي ضعف قدرته على المشي.



الأربعاء، 24 يوليو 2013

الحلقة العشرون: أم الدنيا تحضن فيصل


تشبعت من رائحة المستشفى، من الروتين والوحدة اللذان أفقداني طعم الأجتماع بالناس، وحميمية البيت التي كانت تمثل لي الحياة بكامل تفصيلها، فافتقدت شجار أبنائي على من سيمسك بجهاز التحكم عن بعد للتلفزيون، أفتقد أصواتهم، وحركتهم التي كانت تفقدني صوابي في بعض الأحيان، أفتقد رائحة قهوتي التي أعدها بنفسي، وأشارك بها زوجي كل صباح، و أحن لتفاصيل صغيرة تركتها في منزلي، وأعلم أنها تفتقدني هي أيضاً، اشتقت لمرآتي، مبخرتي، ومنضدة صغيرة وضعت عليها صور أبنائي.

في إجازة الصيف لعام 1429 هـ، أكمل فيصل عاماً كاملاً قضى معظمه في المستشفى، كانت نتيجته أن أنهكت جسدياً، وأرهقت نفسياً، و ها أنا أتوق لأجواء منعشة، فرائحيه، لأروّح عن نفسي، ولأعوض أبنائي عن ما مروا به خلال العام المنصرم.

 في أحد أيام ذلك الصيف أخبرنا الطبيب بأن حالة فيصل في تحسن وأنه سيكتب له إذناً بالخروج من المستشفى يوم الأربعاء القادم، فسألته إن كانت صحة فيصل تسمح له بأن يسافر؟ فرد علينا بالإيجاب مع قائمة من النصائح والإرشادات.

 كنت متحمسة جداً للسفر خصوصاً وأن أسرتي كانت قد اجتمعت في مصر، ضمن رحلة عائلية نظمها والدي لإخوتي وأخواتي. عندما عقدت العزم على اللحاق بهم – حيث أنهم  كانوا قد سبقوني بأسبوعين – حجزت على أقرب رحلة وجدت فيها مقاعداً لي ولأبنائي والتي كانت فجر يوم الجمعة.

أعددت قائمة دقيقة لاحتياجات فيصل من أدوية ومسكنات وأجهزة للتنفس، وغير ذلك، حتى أن تركيزي عليها أفقدني التركيز على حاجياتي الخاصة التي قد أحتاجها في السفر، والتي تفاجأت بأني قد نسيت معظمها!  لكن لم يترك ذلك أثراً اطلاقاً، فحالما حطت الطائرة في مطار الإسكندرية حتى تنفست الصعداء وأنا أشم رائحة الأهل، وأسمع صوت السعادة تغذ الخطى قادمة نحوي.

خرجت من المطار في تمام الساعة التاسعة صباحاً، ووجدت والدي وأخي بانتظاري منذ الساعة السابعة صباحاً، حيث علمت لاحقاً بأن والدي لم يستطع النوم بعدما صلى الفجر؛ خوفاً من أن يتأخر علي وعلى أبنائي في المطار.

قضينا فترة جميلة هناك، إذ أن رطوبة الجو واعتداله أثرت إيجاباً على صحة جهاز فيصل التنفسي، والذي تحسن  بشكل ملحوظ، فلم تعد هناك حاجة لأجهزة التبخير كثيراً كما هو معتاد عليه في الرياض، وكم أسهم ذلك في تبديد مخاوفي كلها وجعلني أخلع معطف التوتر كاملاً و أن أسمح لنفسي بأن "أحتفل" بأول ختم في جواز صغيري فيصل.









الاثنين، 22 يوليو 2013

الحلقة التاسعة عشر: جبين فيصل



أُجري لفيصل تخطيطاً للدماغ قبل أن يتم عامه الأول بقليل، و يبدو أن ذلك الإجراء يتم من خلال تثبيت بعض الأجهزة على الجبين، تبينت ذلك عندما أُدخل فيصل قادماً من غرفة التخطيط إلى غرفته حيث كنت انتظره مدفوعاً بسريره الصغير ذو العجلات، استغربت وجود عصابة عريضة تلف محور رأسه، بقيت تلك العصابة بعض الوقت قبل أن ترفعها الممرضة لتكشف عن جرح غريب على جبينه، فقد كان على جبينه بقعة زرقاء محاطة بإحمرار، سألت الطبيب عنها في أول زيارة له بعد إجراء ذلك التخطيط، فأخبرني انه من الطبيعي أن يتشكل هذا الجرح بعد إجراء تخطيطاً من النوع الذي خضع له ابني، وتوقع أن الجرح سيزول مع مرور الوقت.

بعد يومين زار فيصل طبيب آخرغير الطبيب أعلاهوسألني مستنكراً عن
الجرح الذي في جبين فيصل، استغربت سؤاله لأني اعتقدت أن طبيباً مثله قد اعتاد
على مثل هذه الآثار التي يتركها  إجراء كتخطيط الدماغ للرضع، و بالتأكد لم تكن تلك
تجربته الأولى في هذا مثل هذه الحالات!

فأجبته بأنه أثر تخطيط الدماغ، و أردفت متسائلة إذا لم يكن الأمر طبيعياً؟ فصدمني
بالنفي القاطع، و أن ما حدث لطفلي ما هو إلا خطأ طبي، وسوء تعامل مع مريض،
وأنه دليل على قلة الخبرة، وأخبرني بأنه من حقي رفع شكوى لاسترداد حق طفلي
وإن لم يمحي ذلك ما وقع بالفعلو أيضاً لإتخاذ اللازم لتصحيح الخلل و منع
حدوث ذلك لأطفال آخرين.

تألمت لما حدث لإبني، وحزنت كثيراً، وشعرت بالإستياء من الشخص الذي أجرى لصغيري عملية التخطيط، و بالرغم من ألمي ذاك؛ إلا إني لم أحرك ساكناً، وكنت سلبية بعدم رفعي لشكوى، أو كتابة ملاحظة للمسؤل، لأن الموضوع لم يكن فقط متعلقاً بابني وحده، بل بالمرضى المحتملين من بعده، والذين قد يتعرضون لما تعرض له ابني.

بعد مرور سنوات، أنظر الآن الى ذلك الأثر على جبين فيصل، فأراه قد اتحد مع
تكوينه الصغير، ليكون جزء من شخصيته، فقد أصبح ذلك الأثر علامة يميز بها
الأطباء فيصل ويعرفونه على الفور في كل زيارة دورية له معهم، وكلما وقعت
عيني عليه تذكرت الرحلة التي خاضها ابني في سبيل التعافي، وكل التحديات التي
وصلت به الى مراحل خطيرة و صمد خلالها، فأشكر الله وأحمده حمداً كثير اً.