السبت، 20 يوليو 2013

الحلقة السابعة عشر: لحظات تحبس الانفاس ...


كان عمر فيصل لا يتجاوز الأشهر الأربعة عندما أخذ وضعه الصحي بالتدهور، فقد أصبح لا يمكنه أن يتنفس بدون أجهزة التنفس الصناعية، وبنيته ضعيفة، خائر القوى، و تواجده في العناية المركزة أكثر من تواجده معي، وعندما يكون في العناية الفائقة؛ فإني أعود لمنزلي لممارسة أدواري الأخرى التي أجلتها لحين ميسرة.

ظل فيصل في العناية الفائقة يتنفس من خلال أجهزة التنفس الصناعية، مخدراً بالكامل طوال الوقت خاضعاً للملاحظة الدقيقة، وفي أحد زياراتي له فُجعت بربطهم يديه الصغيرتين إلى جانبه، فسألت الممرضة بغضب:" لم ذلك؟ فالطفل مخدر بصورة دائمة، لم التعذيب؟" فأطلعتني بما حصل البارحة حيث سحب فيصل أنابيب التنفس عن نفسه بحركة لا إرادية؛ مستنفراً بذلك كامل الجهود فاستدعي له الأطباء، والمختصين لإعادة تركيب الأجهزة، وللتأكد من أن الوضع عاد مستقراً، وعلى أثر ذلك امر الطبيب بربط يديه لكي لا يتكرر الموقف.

بقي ابني مخدراً عدة أسابيع قبل أن يتصل بنا الطبيب لمناقشة حالته، وعندما حضرنا إليه أطلعنا على خطة العلاج الجديدة والمتمثلة بشق فتحة في عنق الصغير ليتنفس منها، طالباً منا الموافقة والتوقيع لإجراء ذلك الشق في حلقه، وأوضح لنا بأنها الطريقة الوحيدة التي أمامنا لمساعدة ابننا في هذه المرحلة.

 كنت في داخلي أرفض الفكرة بشدة، فقد كنت أفكر كيف سيتعايش ابني مع حالته التي هو فيها الآن فكيف سيكون الأمر بشق في وسط عنق طفل رضيع!

منحنا الطبيب يوماً لإتخاذ القرار، تاركاً إيانا نتشاور ونتحاور في الموضوع، فقررنا ان نحصل على وجهة نظر طبية اخرى، و طلبنا نقله الى مستشفى اخر.

حضر فريق طبي مختص من المستشفى المراد نقل ابني إليه، لمعاينة فيصل في المستشفى المراد نقله منه، وفي غضون أيام تم نقل ابني إلى المستشفى الجديد بسيارة إسعاف مجهزة شقت به شوارع الرياض الخالية بعد منتصف الليل، إذ أن بروتوكول نقل المرضى من مستشفى لآخر لا يكون إلا بعد منتصف الليل لتجنب اختناقات السير – كما أطلعوني بذلك لاحقاً-.

وضع فيصل في غرفة منعزلة داخل حضانة العناية الفائقة في المستشفى الذي انتقل له حديثاً، وبقي هناك مخدراً، موصولا بأجهزة التنفس الصناعي لأيام قبل أن ينضَمّ لباقي الأطفال في الحضانة ويخرج من غرفته المنفصلة، بقي على هذه الحال عدة أسابيع؛ حتى ألتقى بنا الأطباء وعرضوا علينا شق فتحة في العنق للمرة الثانية، وحاول بعضهم إقناعنا بأنها الخيار الأمثل، وربما الوحيد، مبيناً أنه بالإمكان إغلاق تلك الفتحة لاحقاً.

ومع ترددنا في الموافقة على هذا الاجراء، أقترح أحد الأطباء ان يتم إزالة أجهزة التنفس عن الصغير بحضور الوالدين والأطباء ذوي العلاقة، فإن استطاع الصغير التنفس بنفسه دون الحاجة للأجهزة، فقد حلت المشكلة ولله الحمد، وقد سلم الصغير من الفتحة، وإن لم يستطع؛ فيتم إجراء الشق في حلقه للتنفس، وبالفعل وافق جميع الأطراف، وحُدد الموعد.

في اليوم المحدد خرجت مع زوجي متجهين إلى المستشفى، وأنا عاقدة العزم بأن لا أدخل الغرفة التي سيتم فيها سحب أجهزة التنفس عن فيصل، وأن أترك زوجي يدخل لوحدة، فقد كنت خائفة أن لا أتحمل رؤية طفلي بهذه الحال.

عندما وصلنا جلست في غرفة الإنتظار أقرأ القرآن وأدعوا الله، أما زوجي فقد توجه إلى غرفة وُضع فيها فيصل في سريره الصغير وقد استعاد وعيه بعد أن رفعت عنه الأدوية المخدرة استعدادا لهذا الإجراء، كان في سريره يتحرك بعفوية كسولة تحت أضواء ساطعة سلطت عليه، وقد إلتف حول ذلك السرير ما يزيد عن عشرة أطباء ينظرون للصغير بكامل تركيزهم.

كان المنظر مهيباً، خصوصاً عندما بدأ الطبيب يشرح لزوجي ما سيحدث، وكيف أنهم سيسحبون عن الصغير أجهزة التنفس التي كان متصلا بها الخمسة أشهر الماضية، وعندما حان الوقت، بدأت عملية سحب الأنابيب من الصغير، و الجميع يراقب كامل التفاصيل، إبتداءً من سحب الأنابيب، إلى حركات الطفل وسكناته، كان من المحتمل إن لا يستطيع صغيري التنفس... وربما للأبد!

أوقفت الأجهزة، وسحب منها ماسحب، واستمر فيصل يتنفس، ويلتقط أنفاسه الجديدة بنفسه دون مساعدة الأجهزة، وهو يقلب عينيه على ما حوله فينظر إلى من حوله والى الجدران والأجهزة، مرت عشر دقائق وفيصل يتنفس لوحده، ثم ساعة، والأطباء واقفين على أقدامهم يراقبون فيصل، وبعد مرور ساعتين، ساد نوع من الإرتياح، و زالت المخاوف، وربما سلم فيصل من فتحة الحلق فعلاً!

كان زوجي يخرج بين فترة وأخرى ليحكي لي ما حدث ويطمئنني ويشاركني مشاعر الفرحة والإرتياح التي غلفت قلبه عند رؤيته لفيصل والحياة تدب في أوصاله.

وضع فيصل تحت الملاحظة الدقيقة لمدة 48 ساعة والتي إن تجاوزها يكون رسمياً قد تعافى ولا يحتاج لأي نوع من أجهزة التنفس المساعدة.










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق