كان
يوماً عادياً، دخلت فيه المستشفى كأي يوم آخر، أتممت فيه أجراءات التسجيل بصورة شبه
آليه، كنت مطمئنة البال تماماً، تشغل بالي أفكار سطحية وأمور حياتية تافهة.
أشياء
لا تذكر تدور في ذهني، توافه تطوف فوق رأسي بعفوية، سقطت كلها وتبخرت عندما نادتني
الممرضة تطلبني إلى غرفة الطبيبة، تبعت الممرضة بصورة آلية قادتني لغرفة طبيبتي التي
أعرفها جيداً، دخلت عليها، وألقيت التحية، ثم جلست. بدت لي الطبيبة مرتبكة بعض الشيء،
حيث كانت يديها المسندتين إلى الطاولة أمامها والتي تحركهما بصورة متوترة مثيرة للشك...
سألتني
طبيبتي عن أحوالي، ثم قالت لي بنبرة متحفظة، أنها أطلعت على ملفي، وأنها راجعت صور
الأشعة فوق صوتية والتي أجريتها سابقاً، وأخبرتني بأن الصور حملت نبأ غير سار، فالجنين
يعاني من توسع في تجاويف الدماغ، ثم سكتت لبرهة بدت لي كالساعة، وبعدها كسرت حاجز
الصمت بأسئلة سكبتها عليّ وكأنما صنبوراً بارداً فتح فوق رأسي؛ سألتني ما إذا كنت
قد تعرضت لإرتفاع شديد بدرجة الحرارة أثناء حملي، أو إذا ماكنت قد تناولت المضادات
الحيوية، فأكدت لها ان ذلك لم يحدث، فسألتني إن كان هناك أمراض وراثية في العائلة تتضمن
إتساع التجاويف الدماغية، و نفيت ذلك اثناء تقليبها لبعض الأوراق في الملف الذي أمامها،
ثم قالت أنه قد يكون بسبب نقص حمض الفوليك لدي والذي توافق مع الأسابيع الأولى
للحمل، ثم شرحت لي ما معني أن يكون الجنين يعاني من تلك التوسعات مؤكدة بأن الامور
لن تكون جيدة، فأنا أحمل جنيناً مشوهاً على حد تعبيرها، قد تصل درجة التشوه فيه لمستويات
متطرفة من تضخم حجم الرأس، و التخلف العقلي.
كنت
هادئة، أستمع إليها دون أدنى تفاعل، كنت كمن كان يستمع لنشرة أخبار، عن أحداث مفجعة
و مؤلمة قد تصيب الغير ولكنها لا تعنيه ولم تصبه، كنت اعاني من أثار الصدمة، فعلى
عيناي غشاوة من الدموع تشوه الروؤيا أمامي، و يشوب سمعي طنين مزعج، أشعر بأنه
يخترق رأسي.
لعل
جمودي ذاك عاكس توقع الطبيبة مما جعلها تتابع كلامها قائلة: جنينك مشوه بشكل كبير،
لانستطيع تحديد حجم التشوه بعد، لكنكِ ما زلتِ في البداية، فلم تتعدى فترة حملكِ المرحلة
التي تستطيعين فيها إسقاط الجنين، لديكِ بعض الوقت، أنصحكِ بإسقاط الجنين حالاً، والخيار
الأول والأخير لكِ!!
لم استفسر،
لم اسأل، و لم أتجاوب مع طبيبتي، فأنا أنتظر لحظة الهروب فقط، كنت في حالة إنكار
تام، بلسان حال يقول:لا... هذا لايحدث لي الآن، هذا غير صحيح!
تسمرت
أمام الطبيبة بعيون جامدة وهي تحدثني، وعندما توقفت عن الحديث، وبدا لي الوقت مناسباً
للهروب، فعلت ذلك وهربت، لا أذكر ماذا قلت لها تمهيداً لإنسحابي، ولكن أذكر
اندفاعي نحو الباب، كالذي كان مربوطاً في قعر محيط حتى أوشك على الهلاك، وفجأة
أنقطع الحبل الذي كان يشده للأسفل فاندفاع بأقوى مالديه للسطح، ليتنفس الحياة،
وأشياء اخرى... وكذلك كنت أنا!
خرجت
من عيادة الطبيبة و رحت أجوب الممرات على غير هدى، مسرعة كمن كان لديه موعد مهم في
مكان محدد، كنت أمخر الممرات التي كنت أسير فيها سابقاً، وأنا بحال جيدة، ولكن اليوم
أسير فيها بغير الحال، وكنت أشاهد السيدات الحوامل أمامي في قسم الحالات الحرجة فتنهمر
دموعي بحرقة، ولسان حالي يقول أشعر بألمك الآن، فقد أصبحت واحدة منكن ... أعتذر
لأني لم أُقدر حجم ألمك سابقاً!!
هاجت
الدنيا بي وماجت، وراح شريط ذكرياتي يمر أمامي، فتذكرت مراجعتي بابنتي البكر، ثم التي
تليها، حتى آخر ابن لي، كلها كانت مثالية، و كلها مررت بها في نفس الأماكن،
فالمكان نفس المكان، ولكن الحال غير الحال.
ثم تذكرت
ابنتي عبير والتي لم تكمل بضعة أشهر منذ أن تعافت من حساسية القمح، تذكرت معاناتي معها،
ومعاناتها مع المرض، ومدى ألمها من وراء شعورها بالأختلاف، فماذا سيحدث للجنين إن
هو كبر؟!! أسئلة بثقل الجبال راحت تنهال على رأسي حتى اختنقت...
كنت
أحاول عبثاً أن أجتر مشاعري الطبيعية آنذاك، متلمسة ماحولي من الجمادات التي لم
يتغير حالها... كنت أتسائل في نفسي: ما الذي يحصل لي الآن! من أنا، يا رب؛ إن كان هذا
كابوسا فاجعلني أستيقظ منه الآن! يا رب؛ إجعل الطبيبة تتصل بي الآن لتخبرني بأنها أخطأت
في تشخيص الحالة ...
شعرت
وكأني سقطت في حفرة سوداء مظلمة، وما زلت أسقط، تمنيت أن أرتطم بالأرض ويتهشم كل
عظم يقيم جسدي فقط لينتهي ما أنا فيه الآن، ولكن مشاعري كانت في حالة فوضى عارمة...
جلست
ولففت نفسي بيدي وأخذت أبكي، وأدعوا الله...
يارب
ساعدني!!
إلهي
ساعدني...
لا أذكر
كم لبثت من الوقت حتى أستعدت رباطة جأشي، وتماسكت قليلا واتصلت بالسائق ليقرب السيارة
إلى الباب، وفي أثناء انتظاري، حاولت أن أهدئ نفسي، ثم اتصلت بزوجي وأخبرته بما قالت
لي الطبيبة، وفقدت تماسكي وانهمرت مرة أخرى...
استنفرت
كل مشاعري أثناء محادثتي لزوجي، فكنت أحكي له ماحدث بصوت متهدج لم أفهم أنا نفسي
مالذي كنت أقوله، وبالتأكيد لم يكن هو ليستوعب
ماذا أقول، ولماذا أبكي، فهو لم يكن مهيأً بأي حال من الأحوال لسماع ما حدث، وما قالته
لي الطبيبة، فقد اخذه ذهول عميق!! لم يصدق، ولم يستوعب، ومع هذا فقد بذل ما بوسعه
ليهدئني ويطمئنني، وأخبرني بأن كل شي سيكون على مايرام، وأنه سيكون معي في كل
خطوة، وأننا لابد أن نتقبل ماكتبه الله علينا أيا كان، و أنه هو أرحم بنا وبأبننا
من أنفسنا، واتفقنا ان نلتقي في المنزل خلال ساعة ليفهم تفاصيل ماحدث.
عندما
وصلت الى منزلي كنت قد هدأت، واستعدت رباطة جأشي، جلست وسردت على زوجي ماحدث، واستعرضت
له الخيارات التي طرحتها علي الطبيبة والمتمثلة بالاحتفاظ بالجنين، او اسقاطه.
اجرينا
سوياً بحثاً سريعاً على الانترنت، وجمعنا بعض المعلومات، ورحنا نناقشها سوياً، حديثي
معه جعلني أطمئن وادرك أن هناك من يقف بجانبي، ويساندني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق