إجتهدت بالدعاء مع دخول الشهر الفضيل الذي غلفني بسكينة وطمأنينة، وأحل في قلبي سلاماً داخلياً، فقد كان فيصل ما يزال في صندوقه الزجاجي في العناية الفائقة داخل المستشفى، بينما تم تسريحي إلى المنزل في ذلك الوقت.
في كل يوم أصحو صباحاً لأعدّ إفطار عائلتي الذي أبذل فيه ما استطعت جمعه من جهد وتركيز، ثم الملم نفسي وأخرج بعد صلاة العصر إلى المستشفى لأطل على صغيري من خلف الزجاج، فأرعاه بعيني، وأغدق عليه من حناني وهو بعيد لسويعات.
كنت على يقين بأنه يشعر بوجودي، وأن حالته تتحسن عندما أكون قريبة منه، مسخرّة طاقتي الإيجابية كلها نحوه.
أعلم أن ذلك لم يكن عادلاً لباقي أبنائي، وأدرك الآن كم قصرت في واجباتي الأخرى، ولكن لم يكن لدي خيار آخر وقتها، فالصغير بحاجتي و لا بد من بعض التضحيات...
عزيزتي الأم...
هل تعرفين ذلك الشعور الذي ينتابك حين تضعين صغيراً شاركك أنفاسك لتسعة أشهر، حملته في جوفك بحب، وخضت معه الكثير، فينبثق روحاً من لب روحك، ليؤخذ فيحتجز بعيداً عنك، حتى أنك لا تستطيعين مجرد مسح أصبعك على وجنته؟ هل تعرفين ذلك الجنون الذي يصيب روحك والذي يخفق معه قلبك حتى يكاد يخرج من سجن أضلعك ليحطم ما حوله ليحتضن صغيره؟
أنا أختبرت ذلك، وأعرف ذلك الشعور جيداً، فقد كان يجري في داخلي مجرى الدم، و ربما كانت دعوات أمي تبقي تلك المشاعر تحت السيطرة، فعندما أفكر الآن، واسترجع الذكريات، فإني لا أستطيع أن أصدق كيف استطعت أن احافظ على رباطة جأشي، وهدوئي في مواقف كان من المباح فيها أن أفقد صوابي!
كنت أنظر لصغيري، كتلة اللحم البيضاء الملساء التي تكورت على نفسها وتجمعت على بطنها فوق وسادة بلغت ثلاث أضعاف حجمه، وأتألم من كمية أسلاك وأنابيب التي كانت ترتبط به، لم أصدق أن ذلك الجسد المتناهي الصغر قادراً على استيعابها، لم يكن صغيري ينام لوحده على في صندوقه الزجاجي بل شاطره ذلك الصندوق البارد الخالي من المشاعر حقنة فاق حجمها حجم جسمه؛ تضخ له المورفين لتسكين الألم الذي يتبع عملية إغلاق الفتحة التي في ظهره، والعملية الأخرى المتمثلة بزراعة جهاز تصريف السوائل (الإستسقاء الدماغي) في رأسه الجميل، والذي ترك أثره على نصف رأسه المحلوق.
في كل يوم أقف أمام تلك الزجاجة التي تفصل الحضانة عن الزوار القادمون من الخارج، لأراقب أنفاسه، وأرصد تحركاته، رافضة كل دعوات الممرضات لي للجلوس بين الفينة والأخرى، فقد تجاهلت الآمي، إذ أن جراح عملية الولادة لم تشف بعد، ولكني كنت انتصب واقفة متناسية كل الألم، أعزي نفسي بأن الجراح ستشتد والحركة تساعد بتسريع عملية الشفاء.
في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، وأثناء لقائي اليومي بفيصل، رأيت زوجين شابين ينظران لصغيرتهما من خلف النافذة، مثلي تماماً، نظرت إليهما وشعرت بالإنتماء إليهم؛ فنحن نتشاطر المشاعر ذاتها، فكلنا ينظر لفلذة كبده مكبل الأيدي، و لعل الزوج شعر بذات الإنتماء حيث أنه تقدم إلي بأدب جم، واستأذن للحديث، وقال لي وبنبراته حنان أبوي: أختي إن ابنك كان يبكي بحرقة طول فترة الصبح ولم تتحرك أي ممرضة له، وعندما طلبت من إحداهن أن تذهب إليه ردت بأن ابنك (دلوع) وأنه لا يحتاج شيء هو فقط مدلل وتعود على الحمل! فأنصحك يا أختي بأن ترفعي للإدارة أو تفعلي ما يمكنك فعله، فأنا أراك كل يوم هنا عند ابنك و أعلم أن ما حدث الصباح ليس مقبولا لديك، من دافع أبوي أخبرتك ولك حرية التصرف.
شكرته، وأنصرفت وانا لا أرى طريقي، فقد أصبحت الممرات تتأرجح في عيني، حيث حجبت دموعي الرؤيا عنها، كيف يحدث هذا لصغيري، ألم تعلم الممرضات بما مررت به، ألا يدركن ماكابدت من أجل هذا الدلوع؟ شعرت بغضب عارم، بكيت كثيراً، واتصلت بزوجي وأخبرته بما حدث وطلبت منه أن يرفع بطلب ابني وأني أريد أن أعتني به بنفسي في أحد غرف المستشفى.
وفعلا، رفع زوجي طلبا بذلك وجهها إلى إدارة المستشفى، فاستدعاه الطبيب المعالج لفيصل لمناقشة طلبه، وقال لزوجي بأن ذلك لن يكون سهلا، وأن فيصل في غرفة هواءها معقم، فجراحه لم تلتئم بعد، وجراحه خطيره، وأن وجوده في غرفة خارج العناية قد يعرضه للخطر.
بعدما استعرض الطبيب المخاطر واستطرد في تحذيراته، ترددت قليلا وخفت على صغيري، ولكن قوة ما اخترقتني، فرجعت وثبت على موقفي طالبة أن أعتني بصغيري بنفسي، فكان لي ذلك، و المضحك في الموضوع أنهم وضعوني في غرفة مشتركة من 4 مرضى آخرين!!
طلبت العون ممن بيده العون، وشمرت عن ساعدي، وتركت بيتي وأبنائي مع زوجي؛ وكلاً استودعت من لا تضيع ودائعه، وذهبت إلى فيصل، من هو في أشد الحاجة لي الآن.
أثناء وجودي في المستشفى وفيصل في حضني، شعرت بطمأنينة واستقرار، فقد استكانت نفسي واطمأنت روحي قليلاً، وشعرت بنوع من الإمتلاء والإكتمال، فصغيري في مكانه الطبيعي، معي وبين أحضاني، بالرغم من أن مجرد حمله كان مغامرة وعملية صعبة، إلا أني كنت أستمتع وأنا أمرر أصابعي على شعره الأسود الكثيف الذي غطى نصف رأسه.
كان فيصل ضعيفاً، وتظهر عليه أعراض غريبه، فقد كان ينقطع تنفسه فجأة ودون سبب، فيزرق لونه ويغيب عن الوعي وكأنه فارق الحياة، وكانت تلك الحالة تصيبه عدة مرات في اليوم، وذلك يتطلب مني أن أكون متيقظة طوال الوقت أرقبه عن كثب تحسبا لتلك النوبة، إذ كنت أخشى أن تصيبه وأنا في غفلة أو غفوة حتى ولا انتبه لها فلا أطلب المساعدة، حتى أن إحدى الممرضات والتي كانت مفرغة لمتابعة فيصل معي أضطرت لمنع بعض الزوار القادمين إليّ من الدخول إلى الغرفة، وصرفهم بأدب عندما رأتني قد غفوت على المقعد، بتصرف إنساني يهدف لمنحي قسطاً من الراحة.
في بداية وقوع تلك الحالة، كانت تصيبني نوبات ذعر، فلا أعرف ماذا أفعل، فأضطر للإرتجال لحين قدوم المساعدة، و في أحد الأيام، عندما زارني الأطباء في جولتهم الصباحية أخبرتهم عن تلك النوبة ولكنهم اعتقدوا أني أبالغ، وأني مجرد أم خائفة على ابنها فقد اعتادوا ربما على تهويل الأمهات لحالات ابنائهن للفت الإنتباه وجذب الإهتمام، و لا أعتقد أن الأطباء صدقوني في وقتها، أو قدروا الحالة بالشكل الصحيح، و بالتأكيد لا أتهم الأطباء بالتقصير، فأنا أعلم أن هناك أمر أعظم يشغل بالهم الآن!!! فحالة فيصل غير قابلة للنقاش بأنها حالة استثنائية تستدعي الإستنفار.
بعد دقائق من خروج الأطباء من غرفتي أصيب فيصل بتلك النوبة، وكنت لا أزال أسمع وقع خطواتهم في الممر، فالتقطت صغيري بين يدي وركضت به إليهم وأنا أتعثر بأطراف عباءتي، صرخت بكلمات لا أذكرها ولكني كنت استغيث وأقول لهم انظروا هذا الذي قلت لكم عنه، فالتقطه أحدهم من بين يدي و قال لي ارجعي للغرفة، سأهتم بالأمر....وأسرع بابني لمكان لا أذكره، ولا أذكر التفاصيل.....
وكيف أذكرها، فمنظر ابني بين يديّ والموت يخيم عليه أنساني كامل التفاصيل ولعلي نسيتها بإختياري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق