كانت
طفلتي عبير –الإبنة الثانية لي- تعاني من
حساسية القمح، والذي علمنا به في عامها الأول ولا بد من إتباع حمية غذائية للصغيرة
بحيث يكون طعامها خالي من القمح تماماً، وتحديداً الغلوتين، وإلا فإن الطفلة ستظهر
عليها بعض الأعراض المرضية والتي قد تسوء لاحقاً مسببة أضرار جسيمة في الجهاز
الهضمي.
إصابة
عبير قلبت عالمي و نظام حياتي رأساً على عقب، حيث أن الإصابة بهذا النوع معناه الإمتناع
عن المكون الأساسي للأطعمة السائدة في المجتمع السعودي والتي اعتدنا عليها، فلا شوفان
بعد الآن، ولا خبز ولا بسكويت، ولا مكرونة، ولا جريش ولا حتى كيتكات! والقائمة
تطول، فأي طعام يحتوي على الغلوتين ولو بنسبة قليله فان جسد عبير يبدي ردة فعل، من
أهمها الإسهال الشديد كأول البوادر.
كانت
مراقبة طفلة صغيرة تنمو بطريقة تختلف عن غيرها، مهمة شاقة، والأكثر إرهاقاً كان البحث
عن إجابات مقنعة تناسب عمرها لتساؤلاتها البريئة، لماذا لا أستطيع؟ لماذا كلهم يمكنهم
ذلك إلا أنا؟ و لماذا أنا أختلف؟
كانت
عبير تُمنع من أكل الحلويات المقدمة مع القهوة في الإجتماعات العائلية، والإحتفالات
الأخرى لأنها لا تخلو من الغلوتين، في الوقت الذي كانت فيه تشاهد باقي الأطفال ممن
هم في سنها يفعلون ذلك بتلقائية، فبدأ الشعور بالإختلاف ينمو لديها، إذ يتعين
عليها وحدها أن تستأذن مني، وتسأل عن محتويات كل قطعه تدخل فمها.
كانت
صغيرتي تتساءل لماذا يجب أن أخبز لها وحدها الخبز الخاص بوجبتها الصباحية التي تأخذها
معها للمدرسة؟، وهل ستشفى من الحساسية إذا ما لتزمت بالحمية؟، فكنت أحرص على أن أؤكد
لها – دون أن أتأكد – بأنها أن إلتزمت بالحمية فستتعافى بإذن الله، معززة بذلك
شعورها بالمسؤولية النابع من كرهها الشديد لتلك الحساسية، ليس لأنها محرومة من بعض
أنواع الطعام فحسب، بل لأن حساسيتها للقمح تشعرها بأنها شخص مختلف بشكل لا يعجبها.
عندما
بلغت عامها التاسع، أخذتها للمستشفى لإجراء بعض التحاليل لقياس مدى تطور الحساسية
لديها، ولكن هذه المرة كانت النتيجة فيها ليست ككل مرة، فقد كانت مختلفة تماماً عن
أي زيارة قمنا بها خلال الثمان سنوات الماضية، إذ أسفرت التحاليل عن شفاء عبير
تماماً من حساسية القمح، مما يعني أنها بالإمكان أن تترك الحمية، فلا حاجة لها بعد
الأن، زُف إلينا الخبر مع التهاني من الطبيبة التي أشرفت على علاج ابنتي خلال الأعوام
الماضية، فنزلت لمستوى عبير وصافحتها، وأخبرتها بلغة مريحة بأن المواعيد ستكون
متباعدة الآن ولن تكون كما كانت في السابق، فالتحاليل فقط ستكون للتأكد من عدم عودة
الحساسية إليها مرة أخرى.
في طريقنا
للمنزل عائدين من المستشفى فرحين مستبشرين بالشفاء، عرضت على عبير أن تختار أي طعام
يخطر في بالها و يكون القمح المكون الأساسي فيه، أي أكثر شيء كانت تشتهيه ولم تتمكن
من الحصول عليه، فطلبت مني صندوق كامل من الدونات، وكان لها ذلك.
لن أنسى صورتها عندما كانت في السيارة والصندوق في
حضنها وهي تتلذذ محتفلة بكل قطعة تقضمها، وسعادتي تفوق سعادتها فقلبي يرقص فرحاً وطرباً
بالعافية التي حلت على قلبي قبل أن تحل على جسدها الضعيف.
تبرعت
ذلك اليوم بكتب الوصفات الغذائية الخاصة بإعداد الوجبات الغذائية الخالية من
الغلوتين، و التي كنت لا أجدها بسهولة، فمثل هذه الكتب لم تكن متوفرة، وإيجاد واحد
منها غنيمة كبيرة، لذلك وهبت غنائمي لأمهات أُخر ربما كانت حاجتهم إليها أكبر من
حاجتي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق