الخميس، 11 يوليو 2013

الحلقة التاسعة: ولادة فيصل



خلال فترة حملي كنت أقرأ كل ما وقعت عليه يدي من معلومات عن الصلب المشقوق، عملت بجهد لتثقيف نفسي ومعرفة خياراتي ومخاطر كل خيار، فأصبحت أزداد معرفة يوماً بعد يوم، ومع كل يوم أكتسب معه معلومة جديدة تتضاعف مخاوفي ويزداد قلقي.
في بداية الشهر التاسع من حملي أطلعني الطبيب برغبته في ان تكون الولادة خلال هذه الفترة، أي خلال الأسبوع الأول من الشهر التاسع وذلك لأنه يخشى من أن يتضخم رأس الجنين الناتج عن الاستسقاء الدماغي، فقد كان حجمه ضمن المعدل الطبيعي آنذاك، وأخبرني بأنه يخشى من المضاعفات الأخرى التي قد تطرأ خلال الأيام القادمة.

طرح لي الطبيب خيارات الولادة المتاحة، موضحاً بأن خيار الولادة الطبيعية خياراً متاحاً ضمن الخيارات المطروحة، وأكد لي بأنه خياراً آمناً، و كجواب لتساؤلاتي عن وضع الجنين؛ أكد لي أنه سيكون متواجداً طوال فترة الولادة وأنه سيعمل ما بوسعه لإنقاذ صغيري، ولكني فضلت أن تكون الولادة قيصرية خشية أن لا أستطيع تحمل الضغط النفسي الذي بدأ معي منذ أن علمت عن حالة الجنين في الأشهر الأولى، ولأني لم أكن لأستوعب فكرة ولادة طفل قد انكشف عموده الفقري  ولادة طبيعية، فقد كان ذلك أصعب مما يمكنني تحمله.

اتفقنا على أن تكون الولادة بعملية قيصرية، وتم تحديد يوم السبت القادم للولادة.

يوم الأربعاء - قبل الموعد المحدد بيومين:
خرجت مع أبنائي في رحلة عائلية، قضيت معهم يوماً بليلته، محاولة تلطيف الجو وتهدئة النفوس إستعداداً لغياب ربما يطول. كانت ابنتي البكر تاله مازالت في الصف الأول المتوسط، و ابنتاي عبير ودانه في الصف الثالث الإبتدائي، ومحمد في التمهيدي.

كنت أنظر إليهم، وأتذكر كيف كنت أقول لهم كم كبرتم، لأتراجع في تلك اللحظة بيني وبين نفسي فأراهم كالبراعم الغضة الضعيفة، أدركت ذلك اليوم؛ كم كانوا صغاراً، وكم هم بحاجة لي، ربما لأني عودتهم أني معهم طوال الوقت كانت فكرة الإبتعاد ولو لأيام تؤرقني، وتؤرقهم
.
رحلتنا العائلية كانت مجرد ساعات حاولت أن أكون فيها حاضرة الذهن قدر الإستطاعة.

يوم الخميس - قبل اليوم المحدد بيوم:
إستضفت أخواتي، في إحتفال بسيط للإستعداد للولادة بهدف إضفاء بعض الأجواء المرحة، لا سيما و أن والديّ كانا خارج البلاد، واللذان لم يكونا يعرفان بأن موعد الولادة سيكون في الأسبوع الأول من الشهر التاسع، فكانت والدتي تتوقع أن لا أضع مولودي إلا في نهاية الشهر التاسع، معتقدة بأن الوقت مازال مبكراً، ولا يوجد داع للقلق، ومن جهتي كنت دائماً أعزز ذلك الشعور لديها، فلم أكن أريد أن أشغل بالها علي وعلى جنيني، و أعتقدت أن الموضوع تحت السيطرة، وأني أتولى زمام الأمور.

ذلك المساء، وبعد انصراف الجميع، إتصلت بي والدتي لتطمئن على حالي، فقد كانت قلقة بالرغم من أني لم أخبرها بأن موعد دخولي للمستشفى غداً، والولادة بعد غد، كانت والدتي تستفسر بإلحاح عن موعد الولادة خلال مكالمتها، وربما شعرت أني أخفي شيئاً...
قالت: أنا امك، ولا أسمح لك بأن تخفي علي الموعد، و أن كنت تعمدين ذلك، فلن أسامحك إن فعلت...
لم أخبرها، والتزمت بالخطة.

يوم الجمعة – يوم الدخول للمستشفى:
صباح الجمعة، أخذت أفكر بحديث والدتي ليلة البارحة، وأقلقني تصريحها بأنها لن تسامحني أن كنت أخفيت عليها الموعد عمداً والذي هو بالضبط ما فعلته!

إلتقطت الهاتف، واتصلت بها وأخبرتها بان الولادة ستكون قيصيرية وأنها ستكون  يوم غد، وأعتذرت عن إخفائي الخبر عنها، لم تعلق، فقط قالت: أنا قادمة إليك!

سعدت بخبر قدومها في الحقيقة، بالرغم من أني لم اكن أريد أن أقلقها ولكن مجرد شعوري بأنها قريبة مني في مكان ما يغمسني في بحر من الإرتياح، ويغلفني بالأمان.

مساء يوم الجمعة جهزت حاجياتي، وألبست أطفالي وخرجت مع أسرتي الصغيرة كلها للمستشفى، ونزلت في غرفتي موكلة لصغيراتي مهمة وضع الأغراض في الأدراج لأني أردت أن أشغلهن بشيء ما يشعرهن بنوع من المشاركة، فقد كن متحمسات جداً للصغير غير مدركات للواقع الصحي له، كانت الغرفة التي نزلت بها مشتركة، بها ثلاث سيدات غيري، اقتربن إلي ما إن ذهبت أسرتي وعرّفنني بأنفسهن، فأخبرنني بأنهن مجموعة من السيدات الحوامل المصابات بالسكري، في الحقيقة لم أكن راغبة بتكوين علاقات اجتماعية وقتها، كنت فقط أريد أن أُسقط جدران حديدية حولي لتعزلني عن العالم، أردت أن أكون أنا وأفكاري ومصحفي فقط.

قضيت بعضاً من الوقت أقرأ القرآن واضعة يميني على بطني قبل أن تقاطعني إحدى شريكاتي في الغرفة: هل تريدين أن تتناولي البيتزا معنا؟
فقلت: لا شكراً.
فقالت: إذاً؛ لاتخبري الطبيب بأننا أكلنا البيتزا!!  وضَحِكَتْ بدهاء، ثم امتزج صوتها مع أصوات زميلاتها بصخب.

يوم السبت – يوم العملية:
دخلت علي الممرضات صباح السبت وطلبن مني أن أستحم، وألبس الملابس المخصصة للعملية، فعلت ذلك بشكل الي دون أن تمر في خاطري أية فكرة، كنت كعصفور مختنق الصوت أغلق عليه في صندوق زجاجي دون أن يكون فيه منسم واحد.

حملوني في السرير ودفعوني خلال ممرات بدت لي أنها لن تنتهي، هدوء لم يتخلله سوى وقع أقدام الممرضات اللاتي يدفعن سريري وأصوات مرور عجلات السرير على فواصل الممرات الحديدية.

دخلت غرفة العمليات واستقبلني طبيب التخدير الذي قام بعمله بلمح البصر، فغبت عن العالم وعيني على الساعة المعلقة على الجدار تشير إلى 8:00
فتحت عيني ويدي على بطني أصرخ من الألم، شعرت بألم المخاض يعتصرني، وعندما أدرت رأسي لليمين وقعت عيني على الساعة فإذا هي 11:00، علمت وقتها بأني قد انتهيت من العملية وأن جنيني لم يعد في جوفي بعد الآن، وأن ماكنت أشعر به من ألم كان ألم ما بعد الولادة القيصرية.

في هذه الأثناء، كانت والدتي تقضي معظم يومها في المطار تحاول يائسة أن تجد لها مقعداً على الطائرة للرياض، ولكنها لم تتمكن من ذلك حتى صباح يوم الأثنين.

عندما دخلت علي والدتي قادمة من المطار مباشرة، احتضنتني بقوة وبكينا معاً، وبقيت أبكي على فترات متقطعة طوال ذلك اليوم، لا أذكر متى توقفت عن البكاء يومها.

 وأتذكر موقفاً طريفاً في ذلك، حيث دخلت علي إحدى قريباتي زائرة حالما علمت بولادتي، ولم تكن تعرف عن وضعي الصحي والنفسي، وجلست تتحمد لي بالسلامة، وانا أدافع العبرات التي كانت تخنقني منذ الصباح، وحالما دخلت علي أختي وحضنتي محيية إياي؛ حتى انفجرت أنشج ببكاء مرير بصوت مرتفع وأنا أدفن راسي في حضنها، فتسمرت ضيفتي و تجمّدت في مكانها!!
والآن أتذكر الموقف وأشفق عليها فقد كانت بموقف محرج لا تحسد عليه!!













ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق